سورة هود - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب} المترتِّبَ على بعثهم أو العذابَ الموعود في قوله تعالى: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} وقيل: عذابُ يومِ بدر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قتلُ جبريلَ عليه السلام للمستهزِئين، والظاهرُ أن المرادَ به العذابُ الشاملُ للكفرة دون ما يُخَصّ ببعض منهم، على أنه لم يكن موعوداً يستعجل منه المجرمون {إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} إلى طائفة من الأيام قليلةٍ لأن ما يحصُره العدُّ قليلٌ {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} أي أيُّ شيءٍ يمنعه من المجيء فكأنه يريده فيمنعه مانعٌ وإنما كانوا يقولونه بطريق الاستعجالِ استهزاءً لقوله تعالى: {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} ومرادُهم إنكارُ المجيءِ والحبْسِ رأَساً لا الاعترافُ به والاستفسارُ عن حابسه {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} ذلك {لَيْسَ مَصْرُوفاً} محبوساً {عَنْهُمْ} على معنى أنه لا يرفعه رافعٌ أبداً إن أريد به عذابُ الآخرة أو لا يدفعه عنكم دافعٌ بل هو واقعٌ بكم إن أريد به عذابُ الدنيا، ويومَ منصوبٌ بخبر ليس مقدماً عليه، واستدل به البصريون على جواز تقديمِه على ليس إذ المعمولُ تابعٌ للعامل فلا يقع إلا حيث يقعُ متبوعُه، ورُدَّ بأن الظرفَ يجوز فيه ما لا يجوز في غيره توسّعاً وبأنه قد يُقدّم المعمولُ حيث لا مجالَ لتقدم العامِلِ كما في قوله تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ} فإن اليتيمَ والسائلَ مع كونهما منصوبين بالفعلين المجزومين قد تقدما على لا الناهيةِ مع امتناع تقدمِ الفعلين عليهما. قال أبو حيان: وقد تتبعتُ جملةً من دواوين العربِ فلم أظفَرْ بتقديم خبرِ ليس عليها ولا بتقديمِ معمولِه إلا ما دل عليه ظاهرُ هذه الآيةِ الكريمةِ وقولُ الشاعر:
فيأبى فما يزدادُ إلا لجاجة *** وكنتُ أبياً في الخنا لست أُقدِمُ
{وَحَاقَ بِهِم} أي أحاط بهم {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} أي العذابُ الذي كانوا يستعجلون به استهزاءً، وفي التعبير عنه بالموصول تهويلٌ لمكانه وإشعارٌ بعليّة ما ورد في حيز الصلةِ من استهزائهم به لنزوله وإحاطتِه، والتعبيرُ عنها بالماضي واردٌ على عادة الله تعالى في أخباره لأنها في تحققها وتيقُّنها بمنزلة الكائنةِ الموجودةِ، وفي ذلك من الفخامة والدلالةِ على علو شأنِ المُخْبَرِ به ما لا يخفى. {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} أي أعطيناه نعمةً من صحة وأمْنٍ وجِدَةٍ وغيرها وأوصلناها إليه بحيث يجد لذّتها {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} أي سلبناه إياها، وإيرادُ النزعِ للإشعار بشدة تعلُّقِه بها وحِرْصِه عليها {أَنَّهُ} شديدُ القنوطِ من رَوْح الله قَطوعٌ رجاءَه من عَود أمثالِها عاجلاً أو آجلاً بفضل الله تعالى لقلة صبرِه وعدمِ توكلِه عليه وثقتِه به {لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} عظيمُ الكُفرانِ لِما سلف من النعم، وفيه إشارةٌ إلى أنّ النزْعَ إنما كان بسبب كفرانِهم بما كانوا يتقلّبون فيه من نعم الله عز وجل، وتأخيره عن وصف يأسِهم مع تقدمه عليه لرعاية الفواصلِ على أن اليأسَ من فضل الله سبحانه وقطعَ الرجاءِ عن إفاضة أمثالِه في العاجل وإيصالِ أجرِه في الآجل من باب الكُفران للنعمة السالفة أيضاً.


{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ} كصِحّة بعد سَقَم وجِدَةٍ بعد عدمٍ وفرجٍ بعد شدة، وفي التعبير عن ملابسة الرحمةِ والنعماءِ بالذوق المُؤْذِنِ بلذتهما وكونِهما مما يُرْغب فيه، وعن ملابسة الضراءِ بالمسِّ المُشْعِرِ بكونها في أدنى ما ينطلق عليه اسمُ الملاقاة من مراتبها، وإسنادُ الأولِ إلى الله عز وجل دون الثاني، ما لا يخفى من الجزالة والدِلالةِ على أن مرادَه تعالى إنما هو إيصالُ الخير المرغوبِ فيه على أحسن ما يكون، وأنه إنما يريد بعباده اليُسرَ دون العسرِ وإنما ينالهم ذلك بسوء اختيارِهم نيلاً يسيراً كأنما يلاصقُ البشرَةَ من غير تأثيرٍ، وأما نزعُ الرحمةِ فإنما صدَر عنه بقضية الحِكمةِ الداعية إلى ذلك وهي كفرانُهم بها كما سبق، وتنكيرُ الرحمة باعتبار لحُوقِ النزْعِ بها {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عَنّي} أي المصائبُ التي تسوءني ولن يعترِيَني بعدُ أمثالُها كما هو شأنُ أولئك الأشرارِ، فإن الترقّبَ لورود أمثالِها مما يكدّر السرورَ وينغّص العيش {إِنَّهُ لَفَرِحٌ} بطِرٌ وأشِرٌ بالنعم مغترٌّ بها {فَخُورٌ} على الناس بما أوتيَ من النعم مشغولٌ بذلك عن القيام بحقها، واللامُ في لئن في الآيات الأربعِ موطّئةٌ للقسم، وجوابُه سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط.
{إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} على ما أصابهم من الضراء سابقاً أو لاحقاً إيماناً بالله واستسلاماً لقضائه {وَعَمِلُواْ الصالحات} شكراً على آلائه السالفةِ والآنفةِ، واللامُ في الإنسان إما لاستغراق الجنسِ فالاستثناءُ متصلٌ أو للعهد فمُنقطعٌ {أولئك} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتّصافِه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلوّ درجتِهم وبُعدِ منزلِتهم في الفضل أي أولئك الموصوفون بتلك الصفاتِ الحميدة {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} عظيمةٌ لذنوبهم وإن جمّت {وَأَجْرٌ} ثوابٌ لأعمالهم الحسنة {كَبِيرٌ} ووجهُ تعلّقِ الآياتِ الثلاثِ بما قبلهن من حيث إن إذاقةَ النَّعماءِ ومِساسَ الضّراءِ فصلٌ من باب الابتلاءِ واقعٌ موقعَ التفصيلِ من الإجمال الواقعِ في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} والمعنى أن كلاًّ من إذاقة النَّعماءِ ونزعِها مع كونه ابتلاءً للإنسان أيشكُر أم يكفُر لا يهتدي إلى سنن الصواب بل يحَيد في كلتا الحالتين عنه إلى مهاوي الضلالِ فلا يَظهرُ منه حسنُ عملٍ إلا من الصابرين الصالحين أو من حيث إن إنكارَهم بالبعث واستهزاءَهم بالعذاب بسبب بطرِهم وفخرِهم كأنه قيل: إنما فعلوا ما فعلوا لأن طبيعةَ الإنسانِ مجبولةٌ على ذلك.


{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} من البينات الدالةِ على حقية نبوَّتِك المناديةِ بكونها من عند الله عز وجل لمن له أُذنٌ واعية {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} أي عارضٌ لك ضِيقُ صَدرٍ بتلاوته عليهم وتبليغِه إليهم في أثناء الدعوةِ والمُحاجّة {أَن يَقُولُواْ} لأن يقولوا تعامِياً عن تلك البراهينِ التي لا تكاد تخفى صحّتُها على أحد ممن له أدنى بصيرةٍ، وتمادياً في العِناد على وجه الاقتراح {لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} مالٌ خطيرٌ مخزونٌ يدل على صدقه {أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} يصدّقه. قيل: قاله عبدُ اللَّه بنُ أميةَ المخزوميُّ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رؤساءَ مكةَ قالوا: يا محمد اجعل لنا جبالَ مكةَ ذهباً إن كنت رسولاً، وقال آخرون: ائتِنا بالملائكة يشهدوا بنبوتك فقال: لا أقدِر على ذلك فنزلت» فكأنه عليه الصلاة والسلام لما عاين اجتراءَهم على اقتراح مثلِ هذه العظائمِ، غيرَ قانعين بالبينات الباهرةِ التي كانت تَضْطرّهم إلى القَبول لو كانوا من أرباب العقولِ وشاهدَ ركوبَهم من المكابرة مَتنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلولٍ مسارعين إلى المقابلة بالتكذيب والاستهزاءِ وتسميتِها سحراً مُثّل حالُه عليه الصلاة والسلام بحال من يُتوقّع منه أن يضيقَ صدرُه بتلاوة تلك الآيات الساطعةِ عليهم وتبليغِها إليهم فحُمل على الحذر منه بما في لعل من الإشفاق فقيل: {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} ليس عليك إلا الإنذارُ بما أوحي إليك غيرَ مبالٍ بما صدر عنهم من الرد والقَبولِ {والله على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ} يحفَظ أحوالَك وأحوالَهم فتوكلْ عليه في جميع أمورِك فإنه فاعلٌ بهم ما يليق بحالهم، والاقتصار على النذير في أقصى غايةٍ من إصابة المَحزّ {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} إضرابٌ بأمْ المنقطعةِ عن ذكر تركِ اعتدادِهم بما يوحى وتهاونِهم به وعدمِ اقتناعِهم بما فيه من المعجزات الظاهرةِ الدالةِ على كونه من عند الله عز وجل وعلى حقية نبوتِه عليه الصلاة والسلام وشروعٌ في ذكر ارتكابِهم لما هو أشدُّ منه وأعظمُ، وما فيها من معنى الهمزةِ للتوبيخ والإنكارِ والتعجيب، والضميرُ المستكنُّ في افتراه للنبي صلى الله عليه وسلم والبارزُ لما يوحى أي بل أيقولون افتراه وليس من عند الله.
{قُلْ} إن كان الأمرُ كما تقولون {فَاتُواْ} أنتم أيضاً {بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ} في البلاغة وحُسنِ النظمِ وهو نعتٌ لسُوَر أي أمثالِه، وتوحيدُه إما باعتبار مماثلةِ كلِّ واحدةٍ منها أو لأن المطابقةَ ليست بشرط، حتى يوصَفُ المثنى بالمفرد كما في قوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} أو للإيماء إلى أن وجهَ الشبهِ ومدارَ المماثلةِ في الجميع شيءٌ واحدٌ هو البلاغةُ المؤديةُ إلى مرتبة الإعجازِ فكأن الجميعَ واحدٌ {مُفْتَرَيَاتٍ} صفةٌ أخرى لسُور أُخِّرت عن وصفها بالمماثلة لما يوحى لأنها الصفةُ المقصودةُ بالتكليف إذ بها يظهر عجزُهم وقعودُهم عن المعارضة، وأما وصفُ الافتراء فلا يتعلق به غرضٌ يدور عليه شيءٌ في مقام التحدِّي وإنما ذُكر على نهج المساهلةِ وإرخاءِ العِنانِ، ولأنه لو عُكس الترتيبُ لربما تُوُهّم أن المرادَ هو المماثلةُ في الافتراء، والمعنى فأتوا بعشر سورٍ مماثلةٍ له في البلاغة مختلفاتٍ من عند أنفسِكم إن صحّ أني اختلقتُه من عندي، فإنكم أقدرُ على ذلك مني لأنكم عرَبٌ فصحاءُ بلغاءُ قد مارستم مبادىءَ ذلك من الخُطَب والأشعارِ وحفِظتم الوقائعَ والأيامَ وزاولتم أساليبَ النظْمِ والنثر.
{وادعوا} للاستظهار في المعارضة {مَنِ استطعتم} دعاءَه والاستعانةَ به من آلهتكم التي تزعُمون أنها مُمِدّةٌ لكم في كل ما تأتون وما تذرون، والكهنةِ ومَدارِهِكم الذين تلجأون إلى آرائهم في المُلمّات ليُسعدوكم فيها {مِن دُونِ الله} متعلق بادعوا أي متجاوزين الله تعالى {إِن كُنتُمْ صادقين} في أني افتريتُه فإن ذلك يستلزِمُ إمكانَ الإتيانِ بمثله وهو أيضاً يسلِزمُ قدرتَكم عليه، والجوابُ محذوفٌ يدل عليه المذكور.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8